تقتربُ الذّكرى الخامسةُ والسّبعون لتحريرِ معسكرِ الاعتقالِ النّازي “أوشفيتس” الذي أقامَهُ المحتلّون الألمان في بولندا إبّانَ الحربِ العالميةِ الثانية. وقد تمَّ تحريرُ المعسكر في ٢٧-١-١٩٤٥ على أيدي القوّات السوفييتيّةِ وهي تلاحقُ جيوشَ هتلر المتقهقرةَ نحو مصيرِها المحتوم. وقد فُجعَ العالمُ من هولِ الجرائمِ التي تمّ ارتكابُها في هذا السّجنِ الكبيرِ والتي راحت ضحيّتَها أعدادٌ هائلةٌ من مواطني دولِ أوروبا الخاضعةِ للاحتلالِ، وفي مقدّمتِهم أتباعُ الدّيانةِ اليهوديّةِ من مختلفِ الجنسيّات، وذلكَ في سياقِ سياسةٍ نازيّةٍ منهجيّةٍ كانَ هدفُها التخلّصَ نهائياً من اليهودِ بوسائلَ إجراميّةٍ متعدّدةٍ بما في ذلكَ استخدامُ الغازاتِ السّامَّةِ كوسيلةٍ فعّالةٍ للقتلِ الجماعيِّ. ولا يمكنُ إيجادُ مبرّرٍ واحدٍ يخفّفَ من وطأةِ الجرائمِ التي تعرّضَت لها شعوبُ أوروبا والعالمِ أثناءَ الحربِ العالميّةِ الثانيّةِ، وهي جرائمُ طالت اليهودَ بشكلٍ خاصٍّ لكنّها لم توفّر أحداً، فإلقاءُ القنابلِ الذرّيةِ على اليابانِ جريمةٌ، وتدميرُ وارسو وقتلُ مئاتِ الآلافِ من سكّانها خلالَ “انتفاضةِ وارسو” عام ١٩٤٤جريمةٌ، واغتصابُ آلافِ النساءِ الألمانيّاتِ من قِبَلِ جنودِ الجيوشِ الزّاحفةِ نحو برلين جريمةٌ. نرفضُ كلَّ تلكَ الجرائمِ، ونرفضُ جريمةَ ملاحقةِ اليهودِ لمجرّدِ كونِهم يهوداً، والسّببُ الأوّلُ لرفضنِا لها أنّها جريمةٌ ضدَّ الإنسانيّةِ، ولا يمكنُ أنْ نقبلَ اضطهادَ وملاحقةَ وقتلَ النّاسِ الأبرياءِ بسببِ ديانتِهم أو انتمائهم القوميِّ أو لونِ بشرَتِهم، فقد تعلّمنا أنَّ البشرَ وُلدوا أحراراً لا يجوزُ انتهاكُ حقّهِم بالحياةِ ولا المساسُ بكرامتِهم تحتَ أيةِ ذريعة.
تختلفُ الرّواياتُ حولَ عددِ الضحايا من أتباعِ الديانةِ اليهوديّةِ الذين سقطوا نتيجةً للجرائمِ النّازيّةِ خلالَ الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ، فبينما يقولُ بعضُ المؤرخينَ أنَّ العددَ يصلُ إلى ستةِ ملايينَ، يقلّلُ آخرونَ من هذا العددِ ويحصرونَهُ بمئاتِ الآلافِ. ورغمَ قناعتِنا أنَّ كلَّ نَفْسٍ تُزهَقُ دونَ حقٍّ توازي إزهاقَ أرواحِ النّاسِ جميعاً فإنَّ الجدَلَ حولَ عددِ الضّحايا لا يصمدُ أمامَ المنطقِ والأخلاقِ. وهنا يجبُ أنْ نؤكّدَ على القضايا التّالية:
أولاً: ليست دولةُ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الصهيونيِّ وريثاً لآلامِ اليهودِ ومعاناتِهم، فهي دولةٌ تستندُ إلى فكرٍ عنصريٍّ يحتقرُ حياةَ الإنسانِ ويمارسُ التّمييزَ العنصريَّ ضدَّ أبناءِ شعبِنا الفلسطينيِّ لا لسببٍ إلا لكَونِهم فلسطينيّينَ، وهذا هو الفكرُ الذي أدّى إلى النكبةِ الفلسطينيّةِ الكبرى، وهي جريمةٌ ما زالَ شعبنا يعاني من تبعاتِها حتى الآن. وبذلكَ يصطفُّ الفكرُ الذي تسبّبَ بالنّكبةِ عملياً إلى جانبِ الفكرِ الذي تسبّبَ بالمحرقة، ففكرُ الجلّادينَ متطابقٌ في كلِّ الأزمانِ والعصورِ بينما تتشابَهُ آلامُ الضّحايا سواءً كانوا في “أوشفيتس” أو في دير ياسين.
ثانياً: نعلمُ أنَّ النّطامَ الرّسميَّ الغربيَّ المتحايلَ على التّاريخِ يساهِمُ في سرقةِ عذاباتِ اليهودِ وتجييرِها لصالحِ النّظامِ العنصريِّ الصهيونيِّ الذي أنشأهُ الغربُ الاستعماريُّ كمحاولةٍ للتكفيرِ عن جريمةِ “المحرقةِ”، لكنّهُ أضافَ إلى سجلِّ جرائمِهِ جريمةً جديدةً هي جريمةُ النّكبةِ الفلسطينيّةِ وسرقةُ فلسطينَ من أهلِها وتسليمُها هديّةً للحركةِ الصهيونيّةِ لتعيثَ فيها فساداً وإرهاباً. وبينما استمرت المذبحةُ البشعةُ ضدَّ اليهودِ في أوروبا ستَّ سنواتٍِ فإنَّ النّكبةَ والجرائمَ الصّهيونيّةَ مستمرّةٌ بحقِّ فلسطينَ وشعبِها منذُ عشراتِ السنينِ ، ولا زالَ القادةُ الغربيّونَ يلوذون بالصّمتِ المُخجلِ حينَ يتعلّقُ الأمرُ بفلسطينَ بينما نراهم يتداعونَ كتلاميذِ المدارسِ حينَ تطلبُ حكومةُ المستوطنينَ حضورَهم للمشاركةِ في إحياءِ ذكرى ضحايا جرائمِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ قبلَ ثمانينَ عاماً دونَ أنْ يكلّفوا أنفسَهم عناءَ مدِّ البصرِ قليلاً فوق جدارِ الفصلِ العنصريِّ ليروا ضحايا جريمتِهم المستمرّةِ منذُ أنْ غرسوا في فلسطينَ هذا الكيانَ الذي يحترفُ القتلَ والإرهابَ والتمييزَ العنصريَّ والتّطهيرَ العرقيَّ ويمارسُهُ بشكلٍ يوميٍّ.
ثالثاً: مهما بلغَ عددُ الضّحايا اليهودِ فإنَّ هذا لا يمنحُ أحداً الحقَّ في ممارسةِ التمييزِ العنصريِّ والاضطهادِ القوميِّ ضدَّ شعبِنا، فالجريمةُ لا تُبرِّرُ جرائمَ أخرى، والميلُ إلى التهويلِ في أعدادِ الضّحايا اليهودِ لا يمكنُ أن يكونَ سحابةَ دُخانٍ لتغطيةِ الجرائمِ الإسرائيليّةِ اليوميّةَ ضدّ أصحابِ الأرضِ الشرعيّين في فلسطين، وهو محاولةٌ لاجترارِ تُهمةِ “العداءِ للسّاميةِ” وإلصاقِها بكلِّ من يمتلكُ الشّجاعةَ لرفضِ سياساتِ الاحتلالِ وللتضامنِ مع نضالِ شعبِنا العادلِ. ومثلما كانت الشّجاعةُ والعدالةُ في الحربِ العالميّةِ الثانيةِ تعني إنقاذَ اليهودِ من خطرِ الإبادةِ فإنّها اليومَ تعني الانحيازَ إلى الحقِّ الفلسطينيِّ ورفضَ الجرائمِ التي يرتكبُها جيشُ الاحتلالِ ومستوطنوهُ ضدَّ الشعبِ الفلسطينيِّ. “المعادون للسّاميّةِ” وللإنسانيّةِ هم المنحازونَ لسياساتِ دولةِ الاحتلالِ والمدافعونَ عن جرائمِها.
رابعاً: لا يمكنُ التقليلُ من أعدادِ الضحايا دونَ الاستنادِ إلى الدّراساتِ والأبحاثِ التي تهدفُ فقط إلى توخّي الحقيقةِ. وهنا يجبُ الانتباهُ إلى أنَّ من يمارسونَ هوايةَ التقليلِ من الأعدادِ يقعونَ في المصيدةِ الصهيونيّةِ ويظنّونَ أنَّ العددَ “القليلَ” للضّحايا يسحبُ البساطَ من تحتِ أقدامِ الدّعايةِ الإسرائيليّةِ التي تستخدمُ التهويلَ لابتزازِ العالمِ وإجبارِهِ على القبولِ بالسياسةِ العنصريةِ لدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيّ. “التهويلُ” لا يبرّرُ جرائمَ الاحتلالِ و “التهوينُ” لا يقلّلُ من بشاعةِ الجريمةِ التي ارتُكِبتْ بحقِّ يهودِ أوروبا!
خامساً: لم يكن شعبُنا طرفاً في الحربِ العالميةِ الثانيةِ، فلماذا يتمُّ تحميلُهُ تبعاتِ الجرائمِ التي مارسَتْها أوروبا ضدَّ مواطنيها من مختلفِ الأجناسِ والأديانِ، وخاصّةً ضدَّ اليهودِ؟ يعلمُ القاصي والدّاني أنَّ فلسطينَ إبّانَ تلكَ الحربِ كانت خاضعةً للاحتلالِ البريطانيِّ السّاعي إلى إقامةِ دولةٍ ليهودِ العالمِ على حسابِ شعبِنا وعلى أنقاضِ وطنِنا. وقد كان جهدُ شعبِنا في ذلكَ الوقتِ منصبّاً على مقاومةِ المشروعِ الصهيونيِّ ومحصوراً في حدودِ فلسطينَ التّاريخيّةِ دونَ أنْ يفقدَ انتماءهُ الإنسانيَّ وانحيازَهُ إلى المظلومينَ أينما كانوا.
لليهودِ كاملُ الحقٍّ أنْ يلوذوا بصومعةِ الوجعِ الذي خلّفتْهُ الجرائمُ النّازيّةُ في ذاكرتِهم. ولأنّنا ضحيّةٌ للعنصريّةِ الصهيونيّةِ فنحنُ منحازونَ دونَ تردّدٍ إلى آلامِ الضحايا من اليهودِ وغيرِهم، ونرفضُ أنْ تكونَ تلكَ الآلامُ مبرّراً لاستمرارِ الظّلمِ التّاريخيِّ الذي يتعرّضُ لهُ شعبُنا. نحنُ مع الضّحايا أمّا دولةُ الاحتلالِ والاستيطانِ فهي نَبْتٌ آثِمٌ يسمّمُ حياتَنا ويلطّخُ ذكرى ضحايا “أوشفيتس” بعارِ العُنصريّةِ والاضطهادِ وقتلِ الأبرياء من أهلِ فلسطينَ وملّاكِها الشّرعيين
الرّسالةُ الأسبوعيّة
رسالةٌ حركيّةٌ أسبوعيّةٌ من إعداد د.خليل نزّال / أمين سر إقليم بولندا